📅 21 سبتمبر 1955:
يوم أُغلقت فيه أبواب الشريعة في مصر
(إلغاء المحاكم الشرعية في ظل ثورة يوليو)
بسم الله الرحمن الرحيم
في يوم الأربعاء، 4 صفر 1375هـ الموافق 21 سبتمبر 1955م، وقع حدث كبير غيّر وجه القضاء المصري لعقود طويلة، وكان له أثر بالغ على هوية البلاد الإسلامية.
ففي هذا اليوم، أصدرت قيادة ثورة يوليو ذات التوجه الاشتراكي العلماني، قرارًا يقضي بـ:
إلغاء المحاكم الشرعية بالكامل.
ضمها إلى المحاكم العامة (الوضعية).
إلغاء كافة القوانين التي كانت تنظم عمل المحاكم الشرعية واختصاصاتها.
تحويل قضايا الأحوال الشخصية، والوقف، والولاية… إلى قضاء مدني يحكم بقوانين وضعية.
وكان ذلك الضربة الأشد لمحاولات بقاء مظاهر الشريعة الإسلامية في النظام القضائي المصري، منذ دخول الاحتلال البريطاني للبلاد.
⚖️ ما كانت المحاكم الشرعية؟ ولماذا كانت مهمة؟
المحاكم الشرعية كانت قضاءً إسلاميًا مستقلًا، يفصل في:
الزواج والطلاق والنفقة والحضانة
المواريث والوصايا
الأوقاف والوصاية على القُصّر
سائر شؤون الأسرة وفق الشريعة الإسلامية
وكانت هذه المحاكم، رغم ما اعتراها من قصور إداري في بعض الأحيان، تمثل بقايا السيادة الإسلامية في نظام الدولة الحديثة. وكان من أهم أعمدتها قضاة علماء من الأزهر الشريف، يحكمون بما أنزل الله.
🎯 لماذا أُلغيت؟ وما خلفية القرار؟
ثورة يوليو التي قادها الضباط الأحرار عام 1952، رفعت شعارات التحرر والتقدم، لكنها في حقيقتها حملت توجّهًا علمانيًا واضحًا، ورأت أن الشريعة الإسلامية تمثل “عقبة” أمام مشروعها “الاشتراكي التحديثي”.
ولأن بقاء المحاكم الشرعية كان يعني أن في مصر نظامًا قضائيًا يُحتكم فيه إلى نصوص القرآن والسنة، فقد كان لا بد – حسب رؤية هؤلاء القادة – من “توحيد القضاء”، وجعل الجميع تحت سلطة الدولة المدنية، ومن خلال قوانين وضعية مستوردة.
لكنهم لم يستطيعوا تقديم هذا القرار للشعب صراحة، فاحتاجوا إلى “ذريعة”.
🔥 الفتنة المفبركة: «فضيحة أخلاقية» لتبرير قرار جاهز!
قبل إصدار القرار بأسابيع، روجت الصحف الحكومية الموالية للثورة، لخبر مفاده أن اثنين من القضاة الشرعيين – الشيخ سيف والشيخ الضيل – تورطا في طلب “رشوة جنسية” من امرأة مطلقة، مقابل الحكم لصالحها في دعوى.
الخبر انتشر، والفضيحة ملأت الصحف، وسرعان ما تم اتخاذ القرار الكبير: حلّ المحاكم الشرعية بالكامل.
لكن كثيرين ممن عاصروا تلك الفترة، أكدوا أن هذه تهمة ملفقة، باطلة، وأن القرار كان معدًا سلفًا، واتُّخذ لأسباب سياسية لا أخلاقية.
فحتى إن صحّت التهمة – وهي لم تثبت أصلًا – فهل يعقل أن تُلغى مؤسسة قضائية كاملة بسبب خطأ فردي؟!
🧱 خلف الستار: ما الهدف الحقيقي؟
الهدف الحقيقي لم يكن مكافحة الفساد – كما زُعم – بل:
طمس مظاهر الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية.
إخضاع جميع مؤسسات الدولة لسلطة النظام الثوري الجديد.
فرض قوانين وضعية على الأسرة والمجتمع، بدلًا من الأحكام الإسلامية.
إبعاد العلماء الشرعيين عن الساحة القضائية.
وكانت تلك الخطوة امتدادًا لسياسات التغريب التي بدأت منذ عهد محمد علي، وبلغت أوجها في عهد جمال عبد الناصر.
🧨 ماذا حدث بعد ذلك؟
بعد هذا القرار:
أصبح القاضي في قضايا الأسرة يحكم بقوانين وضعية، لا بالشريعة.
اختفى العلماء الأزهريون من ساحات القضاء.
تم تحويل الوقف الإسلامي إلى هيئة حكومية تتصرف في الأموال كيفما شاءت.
أصبحت دعاوى الطلاق، والميراث، والنفقة، والحضانة… تُحكم بقوانين مدنية بُنيت على نماذج فرنسية وغربية.
وهكذا أُقصيت الشريعة بصمت، دون معركة سياسية، بل بحملة تشويه لقضاة أبرياء، وتحت شعار “الإصلاح القضائي”.
📚 شهادات ومواقف
عدد من المفكرين والفقهاء المعاصرين نددوا بهذا القرار، واعتبروه من أكبر خطوات علمنة الدولة المصرية.
منهم:
الشيخ علي الطنطاوي، الذي وصف الأمر بأنه “مجزرة قضائية للشريعة”.
الشيخ عبد الحليم محمود، الذي دعا مرارًا لإعادة المحاكم الشرعية.
الدكتور محمد عمارة، الذي عدّه من أخطر ما فعلته الثورة ضد الإسلام.
🚨 النتائج التي لا تزال مستمرة
رغم مرور أكثر من 70 سنة، فإن أثر هذا القرار ما زال باقيًا:
قوانين الأسرة المصرية لا تُطبق فيها الشريعة إلا جزئيًا.
كثير من القضاة لا علم لهم بالشريعة أصلًا.
أصبح الاحتكام إلى القانون المدني هو الأساس، ولو خالف نصوص القرآن.
وقد أدى ذلك إلى إفساد الأسرة، وإرباك نظام الإرث، وتمييع أحكام الطلاق والزواج، مما ساهم في تفكك مجتمعي خطير.
🕯️ الخلاصة
ما جرى في 21 سبتمبر 1955 لم يكن قرارًا إدارياً عادياً، بل تاريخًا مفصليًا في مسار الأمة المصرية.
يومها، طُويت صفحة الشريعة في القضاء الرسمي، وبدأت رحلة طويلة من التغريب والعلمنة، تحت شعارات براقة وأكاذيب مفضوحة.
ولعل من الإنصاف أن يُذكر هذا التاريخ، لا كذكرى حزينة فقط، بل كنقطة انطلاق لفتح الحوار مجددًا حول إعادة الاعتبار للشريعة، وإحياء العدالة الإسلامية التي أنصفت المرأة والطفل والضعيف قبل أن تنادي بها مواثيق البشر.
📌 المصادر التي استند اليها المقال في كتابته
الوثائق الرسمية لثورة يوليو 1952م
أرشيف الجريدة الرسمية المصرية (1955م) – حول قانون توحيد القضاء.
كتاب “الإسلام والسياسة” – د. محمد عمارة
يناقش بشفافية علاقة الثورة بالتراث الإسلامي، خاصة مسألة القضاء الشرعي.
مذكرات الشيخ علي الطنطاوي – الجزء المتعلق بالقضاء في مصر والشام
يُظهر أثر إلغاء المحاكم الشرعية وكيف تم تهميش العلماء.
كتاب “العلمنة في مصر” – د. عبد العزيز كامل
يتناول تطور علمنة مؤسسات الدولة المصرية ومنها القضاء، بتفصيل موثق.
“الإصلاح القضائي في مصر الحديثة” – دار الكتب القومية
يوثق المراحل التي مرت بها منظومة القضاء من العثمانيين إلى الجمهورية.
مقالات مجلة الأزهر (أعداد الخمسينيات)
خاصة التي نشرت تعقيبات العلماء على إلغاء المحاكم الشرعية.
موقع إسلام أون لاين وموقع الدرر السنية
في توثيق سِيَر العلماء وأقوالهم في القضية.
دراسات معاصرة في تاريخ القضاء المصري – مركز الدراسات القضائية
كتب فقه الأسرة ومقارنة النظم القانونية – في بيان الفرق بين القضاء الشرعي والوضعـي (مثل مؤلفات د. وهبة الزحيلي، ود. عبد الكريم زيدان)