, -

وصايا لحفظ كتاب الله

المدونة

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

ليس كل من بدأ بحفظ القرآن، يُعدّ حافظًا… كثيرون بدؤوا، ولكن القليل من أتمّ الطريق… لمَ؟ لأنهم نسوا أن الحفظ ليس أول الطريق، بل آخره!

قبل أن تمسك المصحف، اسأل نفسك: لمَ أريد أن أحفظ كتاب الله؟

هل لأني أحب أن يُقال عني *حافظ*؟ أم لأني أبحث عن وجه الله؟

سؤال بسيط… لكنه يُحدّد مصير رحلتك كلها.

سيدة نساء هذه الأمة، عائشة رضي الله عنها، سُئلت عن خلق النبي ﷺ، فقالت: “كان خُلُقه القرآن”. لم تقل: كان حافظًا له… بل كان قرآنًا يمشي على الأرض.

فمن أراد أن يحفظه، فليتشبّه بصاحبه.

الإمام الشافعي الذي ما زلنا ننهل من علمه، اشتكى سوء الحفظ فقال له شيخه وكيع: *اترك المعاصي، فإن العلم نور، ونور الله لا يُهدى لعاصٍ*…

فهل تأملت؟ الذهن الذي يُريد النور، لا بد أن يُطفئ ظلمة المعصية أولًا.

الحفظ ليس مهارة عقلية فقط، بل حالة قلبية.

ذهنك… قلبك… سلوكك… كلّها يجب أن تصفو، حتى يدخل النور.

ولا تكن كالذي يجلس ساعة على الهاتف، وساعتين على *الريلز*، ثم يقول: لا أستطيع الحفظ!

بل قل لنفسك: لو قطعت كل هذه المشتتات، أما كان يكفيني بعضها لأحفظ آية؟

نعم، آية واحدة… فـ *قليل دائم، خير من كثير منقطع*.

الصحابة ما كانوا يحفظون عشر آيات حتى يطبقوها!

يتعلّمون، ويعملون، ثم ينتقلون.

وهذا هو القرآن… ليس هدفه أن يُختم، بل أن يُفهم ويُعاش.

وإن كنت ترى نفسك بطيء الحفظ، فابدأ من السماع.

اختر قارئًا تحب صوته، استمع مرارًا، ثم اقرأ…

ستُفاجأ أن اللسان بدأ يسبق العين، وأن الآية صارت مألوفة كأنك تعرفها منذ زمن.

وإن وجدت عينيك تتشتتان بين الصفحات، فافعل كما كان يفعل الشافعي؛ ضع يدك على الصفحة المقابلة، حتى لا يُلهيك ما لم يحن وقته.

حيلة بسيطة… لكنها نابعة من حرص العظماء.

ولا تقل: كبرت، فكيف أحفظ؟

لقد رأينا رجالًا تجاوزوا الستين، وحفظوا كتاب الله كاملًا.

فالقرآن لا يميز بين صغير وكبير… إنما يفتح صدره لمن أقبل عليه.

وحين تحفظ… لا تكتفِ بتكرار الألفاظ، بل افهم.

فالفهم يُثبت الحفظ.

حين تعرف المعنى، تتذوق الكلمات وتربط بينها وتعيش معها.

حينها لا تحفظ فقط… بل تُحب.

انظر إلى المتشابهات… قارن… لاحظ… اربط بين الآيات.

في سورة البقرة مثلًا، آيتان تشبهان بعضهما:

في الأولى: {ولا يُقبل منها شفاعة ولا يُؤخذ منها عدل}.

وفي الأخرى: {ولا يُقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة}.

الأولى بدأت بالشفاعة، الثانية بالعدل…

فقل لنفسك: دخلت شفاعة وخرجت شفاعة… واحفظ!

ولا تجعل (عدد الآيات) هو همّك اليومي…

ربما تحفظ آية واحدة بتدبر خير لك من عشر بلا فهم.

اجعل لنفسك حدًّا يناسب وقتك… لا تُكلّف نفسك فوق طاقتها، لكن لا تُخدع أيضًا بذرائع *الانشغال*.

فالناس اليوم –إلا من رحم الله– مشغولون بالصوت لا بالمعنى، مشغولون بالشاشة لا بالصفحة…

ثم يشتكون ضيق الوقت، والوقت في الحقيقة مهدور على سفاسف الأمور!

ابدأ بآية… في غرفة هادئة، أو مسجد… اختر وقتًا تُحبّه، وساعةً لا يُزعجك فيها أحد…

كرر… وافهم… وارجع… وواصل… سيمر يوم، ويومان، وشهر، وستنظر إلى الوراء يومًا وتقول:

*سبحان الله… كم كنت أقدر، وكنت لا أدري*.

القرآن لا يُؤخذ عنوة، ولا يُحفظ تحت ضغط… فهو ليس مادة دراسية تمضي لتؤدي اختبارها، ثم تنساها.

القرآن لا يعطيك وجهه حتى تُعطيه قلبك… فإن فعلت فتح لك من أبوابه ما لا يخطر على بالك.

الناس أصناف، وكلٌّ يأتيه من بابه، فمنهم من يحفظ بالتكرار، ومنهم من يحفظ بالسماع، ومنهم من يربط بين الصور الذهنية، ومنهم من يكتب بيده.

فلا تتبع طريقة غيرك لمجرد أنها مشهورة، بل جرّب، ثم الزم ما يفتح الله به عليك.

قد تقول: أبدأ من أين؟ من أول المصحف؟ أم من جزء عم؟

والجواب: ابدأ من حيث يلين قلبك، إن وجدت نفسك تتأثر بسورة (الواقعة)، فابدأ بها، إن كانت (سورة يس) تُحيي فيك شيئًا، فابدأ منها.

القرآن لا يُحفظ بالترتيب، بل بالحُب.

واحرص على مصحفٍ واحد، لا تُشتّت نفسك بين نسخٍ كثيرة، لأن العين تحفظ الخط كما يحفظ اللسان النغمة.

ستتعجب يومًا، وأنت تفتح المصحف، فتجد عيناك تتجهان مباشرةً إلى الآية، وكأنّ الصفحة تعرفك!

واجعل لنفسك جلسة هادئة يومية، لا يشترط أن تكون طويلة، بل ثابتة.

اجعلها كما تجعل موعد الطعام، والنوم، فهل أحد ينسى طعامه؟!

فاجعل للقرآن موعدًا لا تتخلف عنه، ولو قرأت فيه نصف صفحة.

ولا تجعل الحفظ منفصلًا عن الحياة، بل اقرأ آية، وطبّقها. افهم معنى الصدق، ثم جرّبه في يومك، افهم معنى التوكل، ثم خُض موقفًا يحتاجه؟ هكذا يُصبح القرآن جزءًا منك، لا زائرًا عابرًا.

والعجيب أن القرآن يُكرمك على قدر صدقك معه، فقد ترى من لا يقرأ العربية أصلًا، يبدؤون بصعوبةٍ ومعاناة، ثم يُكرمهم الله بالحفظ، واللغة، والخشوع!

بينما من عاش بين المصاحف والكتب، لا يزال يتردد ويُؤجّل، حتى يُطوى الكتاب، ويُنسى الطريق.

فالقرآن لا يُعطى إلا لمن يستحقه، فهل تريد أن تكون منهم؟

اجعل بينك وبينه صحبة، اقرأه بصوتك، واسمعه من غيرك، اكتبه بيدك ورتّله في الصلاة، اجعل له دفترًا تسجل فيه معانيه، خواطرك، وقفاتك.

عِش معه كأنك تجالسه كل يوم.

فإن القرآن إذا أحبّك… علّقك به، حتى لا تُطيق فراقه.

وإذا أردت وعدًا صادقًا… فخذ هذه:

من بدأ مع كتاب الله صادقًا، لن يُخيّبه الله أبدًا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

تدوينات ذات صلة

القرآن نزل من السماء لأجلك… فماذا فعلت لأجله؟

واجبنا تجاه القرآن الكريم: قراءة وتدبرًا وتطبيقًا مقدمة القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل، أنزله على نبيه محمد ﷺ ليكون نورًا وهدًى للبشرية، يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط الله المستقيم. وقد عظم

خطبة الجمعة إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم

بسم الله الرحمن الرحيم  الخطبة الأولى: أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، واستمسكوا بكتابه القويم وهدي رسوله الكريم في جميع شؤون حياتكم الخاصة والعامة، قولاً وعملاً واعتقادًا وفكرًا، فمن ابتغى الهدى في

شكوى النبي الكريم من هجر القرآن العظيم

هجر القرآن.. شكوى نبوية وتحذير لنا قال الله تعالى في كتابه الكريم:“وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا” [الفرقان: 30]. بهذه الآية يحكي الله تعالى شكوى نبيه محمد ﷺ، حين قال: “يا رب،