, -

من رعاة غنم إلى قادة أمم

المدونة

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

أوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واطلبوا الكرامةَ في التقوى، والأُنسَ في كتاب الله، والغِنىَ في القناعة، والنجاةَ في الصدق، والراحةَ في ترك الحسد، والسلامةَ في حفظ اللسان، وثِقَلَ الميزانِ في حُسن الخلق، ورفعةَ الدرجاتِ في كثرة الذكر.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

معاشر المؤمنين الكرام: من تأمل الحجاج في طوافهم، وسائرَ تنقلاتهم، ورآهم رغم تباينِ ألوانهم، واختلاف ألسنتهم وأجناسهم، وقد اجتمعوا في مكان واحد، بزيٍّ واحد، يهتفونِ بنداء واحد، ورأي كيف تراصت صفوفهم، وتآلفت قلوبهم، وتوحّدت آمالهم، أيقن بعظمة هذا الدين، وأنه تشريعُ ربِّ العالمين. فما من قوةٍ أرضيةٍ يمكنَها أن تصنَعَ هذا الانسجامَ العجيب؟. ولا أن تُذيبَ كل الفوارق بين أجناس البشر المختلفين؟. إنه الإسلام ولا غيره يستطيع ذلك. {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدون}.

وحُقُّ لكل عاقلٍ أن يتساءل: كيف أمكن لهذا الدين أن يُحدِثَ كل هذا التحول الهائل في سلوك الناس وقناعاتهم، وأخلاقياتهم. رغم أنّه لا يملك من أدوات التأثيرِ، ووسائلِ التغيير معشار ما يملكه غيره. ولقد ظهر في التاريخ أنواعٌ لا حصر لها من الحركات السياسيةِ والفكريةِ والاجتماعية، إلا أنَّ أيًّ منها لم تُغيّر النفوس من الداخل، ولم تُحييِّ القلوبَ والضمائر، ولم تبنِ إنسانًا جديدًا، كما صنع ويصنع الإسلام العظيم.

ومن أراد أن يستوعبَ الأمر جيدًا، فليقارن بين حالِ العربِ قبل الإسلام وبعده، وليتأملَ كيف انتقلوا من أدنى درجات الحضارة، وأسوأ حالات الضعف والتخلف والتبعية، إلى قمّة الحضارة والريادة والسيادة، والتأثير والقيادة. كيف تجاوزوا الأمية، والجهل والوثنية، والتناحر والفوضى والعصبية القبلية، ليصبحوا دعاة علمٍ وهدى، وحُماةَ عدلٍ وحقَّ، وبُناةَ حضارةٍ وأمجاد.

كيف خرجوا من صحراء جرداء، لا خضرة فيها ولا ماء، ولا نظام ولا قوة، ليفتحوا الأمصار والبلدان، ويهدموا عروش الطغيان، ويأسسوا حضارة نوعيةً ما عرف العالم شبيها لها، ولينشروا العدل والسلام في كل أصقاع المعمورة. وليعلموا الدنيا أرقى مبادئ الإنسانية، وأعلى مستويات الأخلاق والقيم السامية. فايُّ سرٍّ جعل من رعاة غنمٍ متخلفين، يتحولون إلى أعظم قادةِ أُممٍ فاتحين؟!.

ما الذي حول أولئك الأعراب المتناحرين إلى إخوةٍ متحابين. أيُّ روحٍ علويةٍ سرت فيهم فجعلتهم يقودون قافلةَ الإنسانيةِ نحو النورِ والهدى، بعد أن كانوا في حالٍ لا أفسدَ ولا أسوأ منها. ما الذي حدثَ لعبدة الأحجارِ والأصنامِ حتى تغيرت حياتهم واستقامَ أمرهم؟!.

ألم يكن الواحدُ منهم يصنعُ إلاههُ بيده من التمر، فإذا جاع أكله.

ألم يكن دُينهم أن يقتلَ بعضهم بعضًا، وأن يبغي بعضهم على بعض، وأن يدفنَ أحدهم ابنته حيةً كراهية أن تأكل من طعامه.

ألم يصفهم إمبراطور الفرس بقوله: “إني لا أعلم في الأرض أمةً أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بينٍ منكم”. فما الذي تغير فيهم حتى صارت جحافل فارس والروم رغم إمكانياتها الضخمة، وكفاءتها العالية، وخبرتها الطويلة في القتال، تقفُ عاجزة أمامهم. كيف أصبحَ هؤلاءِ الأعرابِ المتخلفون بإمكانياتهم البدائية، وهم بلا خبرةٍ حربيةٍ، يذيقون أعدائهم أمرَّ وأنكى الهزائم المتتابعة.

إنَّ المرءَ ليتساءلُ بانبهارٍ شديد: ما الذي جعل عبَّاد الحجارةِ والأصنام، وهم الذين فروا هاربين بالأمس من أبرهة الحبشي وهو يريد هدم كعبتهم المقدسة، فإذا بهم يدمدمون في وقتٍ واحدٍ على عروش فارس والروم، ويدوسون تيجانهم، حتى هلك قيصر فما قام قيصرٌ بعده، وهلك كسرى فما جاء بعده من كسرى.

لا شك يا عباد الله أنَّ هذا الانتقال الإعجازي والتحول المذهل يستحق وقفة تأملٍ طويلة. فإنَّ هذا التحول الهائل في واقع العرب ليس انتقالًا عاديًا، كالذي يحصلُ لغيرهم من الأمم المتحضرة، بل هو انتقالٌ جذريٌ في فكر الإنسانِ ووعيه وقيمه، وفي أهدافه وغاياته. إنه أعظمُ واضخم تحولٍ في تاريخ البشر، بل إنه من العمق والاتساع والسرعة بحيثُ لا يُمكنُ أن تُحدثهُ طاقاتُ البشر المحدودة، بل لا بد له من قوةٍ عليا تمدهُ وترعاه، لا بدَّ له من مصدرٍ إلهي خبيرٍ قدير. {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم}.

لقد كان العرب قبل الإسلام في أسوأ حالاتهم، فكانوا في تخلفٍ وجهلٍ مُدقع، لا يقرؤون ولا يكتبون، ولا يعرفون نظامًا ولا دولةً، ولا يجمعهم دستور ولا قانون ولا عقيدة. كانوا قبائل متنافرةً متناحرة، يعيشون على السلب والنهب والغارات، ويتقاتلون على أتفه أسباب الخلافات، ويغلب عليهم الظلم وسفك الدماء ونهب الممتلكات، وعبادة الأوثان ووأدِ البنات. وقل ما شئت مما ساءِ وقبحَ من العادات والصفات.

حتى بعث الله نبيه محمد ﷺ وبدأ يدعوهم إلى الله وحده، وينقلهم من عبادة الأصنام إلى عبادة رب الأنام، ويعلّمهم منهج القرآن وتعاليم الإسلام، ذلك المنهج الرباني المتكامل، الذي يُعرِّفُ النَّاسَ بخالِقهم، ويُبيِّنُ حقَّهُ تعالى عليهِم، ويضبِطُ علاقاتهِم ببعضهم، وينظمُ كل شؤونِ حياتهِم، ويُغذِي أرْواحَهم وعُقُولَهم، ويرتقي بأخلاقِهم، ويزكي سلوكياتهم، ويَدعوهم إلى كُلِّ فضِيلةٍ، ويَنهاهم عن كُلِّ رذِيلةٍ.

وسرعان ما بدّل القرآنُ احوالهم، وطهر أرواحهم، وزكّى أخلاقهم، وصاغ عقولهم، ولم يكن التغير مجرد تحسّنٌ في السلوك أو اجتنابٍ لبعض العادات السيئة، بل كان انقلابًا كليًا في نظرة الإنسان إلى الحياة، وإلى نفسه، وإلى ربه، وإلى الناس من حوله. فأصبحوا أمةً جديدة، لهم غايةٌ ورسالةٌ ومنهج. فمنهجهم القرآن، وغايتهم: رضا الرحمن، ورسالتهم: هداية الناس إلى الإسلام، وأصبحوا يرون الموت في سبيل الحق أكرمَ من حياة الذل، ويرون إقامة العدل واجبًا فوق القرابة والعصبية، ويرون الدين أمانةً، والناس سواسيه. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.

وكان من نتاج هذا التحول العميق أن أصبحت هذه الأمة الجديدة أقدرَ الأمم على البناء، وأسرعها في التمدد، وأكثرها عدلًا، ورحمة ونفعًا. ولم تُعرف حضارةٌ في التاريخ بدأت من فراغ كما بدأت أمة الإسلام، ثم انتشرت بهذه السرعة، وبلغت هذا العمق والتوسع في البناء والنفع والازدهار.

ولو أمعنت في طبيعة الأثر الذي أحدثه هذا المنهج الرباني في أتباعه، لرأيت من الشواهد ما يُذهل العقول. فرجل كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان في الجاهلية أعرابيًا فظًّا غليظًا، يسجدُ لحجر، ولا يعرف رحمةً ولا رقة، ثم إذا به يتحول إلى نموذجٍ للعبقرية والعدل والرحمة، والزهد والخشية.

لا يفري أحدٌ فريه، ليس هو فقط بل وغيره مئاتٌ وألوف خرجوا في وقتٍ واحد. واصبحوا ولاةً وقادةً وقضاةً ومعلّمين ومرابطين على الثغور، ينشرون العلم، ويُقيمون العدل، ويُربّون الأجيال، ويُديرون دولًا مترامية الأطراف، بلا مدارس عسكرية، ولا نظريات حكمٍ فلسفية. فأي منهجٍ هذا الذي يحوّل النفوس إلى هذا المستوى من الصدق والتفاني؟

وأي نبيٍّ هذا الذي ربّى أولئك الرجال؟

وأي كتاب هذا الذي هزّ الأرواح من أعماقها، وصاغها صياغة جديدة؟. {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُون}. {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين}.

معاشر المؤمنين الكرام: إن أعظم ما في هذ التحول العظيم، ليس حجم التوسعِ وضخامته فقط، بل في طبيعة التغيير وطريقته. فمع عدل المسلمين وحُسن تعاملهم دخل الناس في دين الله أفواجًا. من غير حربٍ وبلا جيوش. حدث هذا في مناطق كثيرة كإندونيسيا وماليزيا وجنوب أفريقيا.

والله لو لم يكن هذا الدين من عند الله، لما كتب له هذا القبول الكبير، ولما دخلوا فيه أفواجًا، ولما بلغ من الإصلاح ما بلغ، ولما أخرج أمةً بهذا الصفاء والتوازن والانسجام. {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين}.

وقد شهد خصوم الإسلام قبل أصدقائه بأنَّ هذا التّحول ليس عاديًا، وأنَّ وراءهُ سرًّ إلهيًا. يقول الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون: “ما عرف التاريخ فاتحين أرحم من العرب المسلمين”.

وإنَّ محمدًا قد أحدثَ في قومه ثورةً لم يشهد التاريخ لها مثيلًا، فقد حوّلهم من قومٍ بدائيين، إلى أمةٍ تحملُ رسالةً حضاريةً عظيمة، وكل ذلك في زمنٍ وجيز”.

ويقول أحد كبار المستشرق الأمريكان: “إن نشوء الإسلامِ هو النبأُ الأعجبُ في تاريخ الإنسانِ كله. فقد ظهرَ الإسلامُ في أمةٍ كانت متضعضعةِ الكيان، منحطةِ الشأن، فلم يمض على ظهوره سنوات، حتى غطى نصف الأرض، ممزقًا ممالك عالية الذرى، مترامية الأطراف، وبانيًا عالمًا حديثًا متراص الأركان”.

أما المؤرخ البريطاني إدوارد جيبون، فقد قال: “بقوة واحدةٍ وفي وقتٍ واحدٍ زحفَ العرب على فارس والروم، وخلال عشر سنوات من خلافة عمر، أخضعوا ستة وثلاثين ألف مدينة وقلعة، وهدموا أربعة آلاف معبد، وبنوا أربعة عشر ألف مسجد”. إنها آيةٌ بينة، تشهد أنَّ هذا الدين ليس صناعةً بشرية، بل رسالةً ربانية، هزّت الأرض، وبدّلت التاريخ، وصاغت الإنسانية من جديد، فالإيمانَ الحقَّ يغيّرُ الإنسانَ تغيّيرًا جذريًا، ويرفعهُ من أسفلِ سافلين إلى أعلى عليين.

وإنَّ التاريخَ ليشهد أنَّ المسلمين يوم تمسكوا بتعاليم دينهم سادوا وشادوا وعمروا الأرض وأناروا للإنسانية طريق التقدم والرقي، وقدموا حضارةً امتدت منافعها إلى كل المجالات. فلما ابتعدوا عن تعاليم دينهم، وجهلوه وأهملوه، انحدروا إلى ما هم فيه، وسيظلون كذلك حتى يعودوا إليه مرةً أخرى، عودة صادقةً صحيحة. {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}.

فاتقوا الله عباد الله واعلموا أننا لن نكون شيئًا بغير الدين، وأن هُويتنا لن تتحقق إلا بالإسلام، كما قال أمير المؤمنين عمر الفاروق: “نحن قومٌ أعزّنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزّة في غيره أذلّنا الله”.

فعودوا إلى كتاب ربكم، وسنة نبيكم، ليعود إليكم مجدكم وعزكم. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

يا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

تدوينات ذات صلة

21/سبتمبر 1955م

📅 21 سبتمبر 1955: يوم أُغلقت فيه أبواب الشريعة في مصر (إلغاء المحاكم الشرعية في ظل ثورة يوليو) بسم الله الرحمن الرحيم في يوم الأربعاء، 4 صفر 1375هـ الموافق 21 سبتمبر 1955م، وقع حدث كبير غيّر

ماذا تعرف عن ام الدنيا ((مصر))

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:  فإن لمصر منزلة عظيمة في  قلوب المسلمين، مِن أجْل ذلك أحببتُ أن أُذَكِرَ نفسي وطلاب العِلْم الكرام ببعض فضائل مصر في القرآن الكريم وسُنَّة

سيرة الصدّيق… من الطفولة إلى القمة!!

🌿 أبو بكر الصديق رضي الله عنه أول من أسلم.. وأول خليفة للمسلمين ✨ مقدمة عندما يُذكر الإسلام، يُذكر النبي محمد ﷺ.وعندما يُذكر النبي ﷺ، لا بد أن يُذكر معه رفيقه الأول، وصديقه الأقرب، وأول من