, -

الذنوب والمعاصي نظرة قرآنية ونبوية

المدونة

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].

من اتقى الله جعل له مخرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب، ويسّر له أمره، وكفّر عنه سيئاته، وأعظم له أجرًا.

ذنوبنا ليست مجرد خطايا عابرة، إنها مفاتيح البلايا، ومصدر الهلاك، ومنشأ الشقاء في الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى:

﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر:43].

فلله في خلقه سنن ماضية، لا تتخلف ولا تتغير، وسنة الله فيمن عصاه قائمة، فكل هلاك ودمار سببه المعصية، وكل محنة ومصيبة أصلها الذنب.

تأمل قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30]، ويكفينا أنه يعفو عن كثير، وإلا لهلكنا جميعًا.

المعصية تغيّر وجه الأرض، فبالذنوب أغرق الله قوم نوح، وبها أرسل على عاد الريح العقيم، وبالصيحة أخرج ثمود من ديارهم، وقلّب الله ديار قوم لوط عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل.

قال تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت:40].

إن للمعصية شؤمًا لا تخطئه عين، والمعصية تورث الذل في النفس، وتفسد الحال، وتخرب البر والبحر، وتهون العبد على ربه، قال تعالى: ﴿وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾ [الحج:18].

قال الحسن رحمه الله: *هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم.*

وفي حديث فتح قبرص، رأى جبير بن نفير أبا الدرداء رضي الله عنه يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ قال: *ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينا هي أمة قاهرة، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.*

والمعصية تقطع القلوب عن القلوب. فمن عصى الله استوحش، وانقطعت صلته بأهل الخير، وظهر ذلك على أهله ودابته، كما قال بعض السلف: *إني لأعصي الله، فأرى ذلك في خلق امرأتي ودابتي*.

وقال آخر: *إني لأعمل الذنب، فأرى تغير الناس علي*.

وما ذاك إلا لأن الذنب يسوّد القلب، ويحجبه عن النور، ويفسد عليه طريق التوبة، قال تعالى:

﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر:19].

وقال ابن القيم: *إذا نسي العبد نفسه، أعرض عن مصالحها، فأهملها حتى تهلك، كمن له زرع أو ماشية فأهملها، فلابد أن تفسد.”

وكل نقص في الرزق، وكل بلاء في النفس أو المال أو الأهل، فهو ثمرة ذنب، ومخالفة لأمر الله.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: *إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق. وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق*.

وهي سبب كل فساد في الأرض، في البر والبحر، في الهواء والماء، في الزروع والثمرات، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم:41].

ومن شؤم الذنب: أن تُغلق الأبواب في وجه العبد، ويتعسر عليه كل أمر، فلا يجد بركة في وقته، ولا رزقه، ولا علمه، ولا أهله، ولا عمله.

قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق:4]، فما ظنّك بمن عطّل التقوى؟

والمعصية تعمي القلب، وتمحو نوره، قال تعالى: ﴿كَلَّا  بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين:14].

وقال ابن القيم: *الذنوب أمراض القلوب، ولا دواء لها إلا تركها*.

قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف:96].

فأين البركات اليوم؟ لقد محت المعصية بركة الزمان والمكان.

أما خطر المجاهرة بالمعصية فهو لأعظم من المعصية نفسها.

قال رسول الله ﷺ: “كل أمتي معافى إلا المجاهرين… ” [رواه البخاري ومسلم].

أن تعمل المعصية وتستتر، خير لك من أن تفضح نفسك، وربك يسترك وأنت تكشف الستر.

بل بلغ ببعض الناس أن يصوّر نفسه في المعصية، وينشرها في الناس!

فأي جرأة هذه على الله؟

كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.

قال رسول الله ﷺ: “ما من عبد يذنب ذنبًا، ثم يقوم فيتوضأ، فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله، إلا غفر الله له”[رواه أحمد بسند صحيح].

وهذه هي صلاة التوبة، فكلما وقعت في ذنب، توضأ، وصلّ ركعتين، واستغفر، تجد الله توابًا رحيمًا.

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران:135].

وكان ﷺ يقول: “رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم.” [رواه أبو داود].

فلا تيأس من رحمة الله، ولا تقنط من مغفرته، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر:53].

اللهم نسألك توبة نصوح، اللهم اغفر لنا، واهدنا سواء السبيل.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

تدوينات ذات صلة

بناء لا هدم: معالجة تربوية للمعاصي في بيئات الصلاح

بسم الله الرحمن الرحيم • تعريف المشكلة: وجود بعض المعاصي الظاهرة من بعض طلاب حلقات تحفيظ القرآن الكريم. • الهدف من هذه الدراسة: الإسهام في فتح آفاق تربوية وعملية للتعامل مع هذه الشريحة، بما يناسبها. معالجة

هذه ليست حرية… بل عبودية للهوى والشهوة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم